ما بين النهدين

 

Battle of Waterloo - William Sadler

 

     تموت الآلهة ميتات عدّة في مواضع عدّة بأشكال عدّة و كيفيات عدّة و ماهيات أخرى كثيرة… و في ركن شماليّة لامعة ما بين نهديها موضع من مواضع غرق الآلهة.

     للثيران حلبات منتثرة كشتات بذور بنيّة مندثرة في كنف الخريف المستبدّ هنا و هنالك، بكلّ ما في الحلبات من صراع و عناق و احمرار و اهتياج و اعتناق… و في زاوية شماليّة غربيّة صغيرة ما بين نهديها حلبة مدريديّة ملكيّة لمصارعة الثيران.

     للخيال عوالم و خبايا و أسرار و قبّعات و شوارع رهيفة دقيقة تفضي لطرق رئيسيّة وعرة مؤدية لمدن و بلاد و شعوب و ثقافات… و في جزء غربيّ، ليس ببعيد، ما بين نهديها فانتازيا لكواكب موازية و مدن يوتوبيّة ذات بوابات سوداء ضخمة و حرّاس، و ما بين ثدييها مملكة الثدييات جميعًا، فحضارة نهديها و ثقافاتهما و لغاتهما يفوقا كثافة سكّان العالم على مدار التاريخ و الحاضر و المستقبل مجتمعين.

     للحرباء أقنعة شتّى، و هكذا الحرب؛ خدع و استراتيجيات قديمة قدم الزفير الحيوانيّ المعقّد… و على مشارف جنوبيّ غرب ما بين نهديها تشرق ساحات حرب، و نوبات حبّ، و بطولات ناعمة، و إمبراطوريات هائمة، فنهداها هي أمّ المعارك؛ هزمتا نابليون في واترلو، و أسقطتا المسلمين في غرناطة، و حاصرتا هتلر في برلين.
هي لا تنفذّ فقط فنون الكرّ و الفرّ بميمنتها و ميسرتها و مقدمتها و مؤخرتها بتقنية المحاربين القدماء، بل ينفُذ سيف قلبها فيك قاطعًا غائرًا، و يخدعك باستبساله و استبداله المواقع ببديهة المحترفين، حينما يقاسمك الضربات العنيفة و يشاطرك نشوة النصر الأزليّة.
نهدتني نَهَدًا مُحكمًا على وقع قرع طبول الشهيق و الزفير المتلاحقتان المتسارعتان، فناهدتها و ناهدتني… و يظلّا في احتكاكاتهما الإستنزافيّة وسط رحى المعركة الدائرة حتى الإفضاء و الزوال، فتقضي وطرها منك على أوتار التخبّط الحسيّ، وتفضّ هي الإشتباك بالإنقباض و الإنزال راضية مرضيّة.

     تكثّف الطبيعة من سحر البقاء كلّما اقترب الإنسان من الرحيل، و كأنّها تغويه مفتَنًا بالبقاء على صدر لوحتها زاهية الألوان للأبد – فللأبد ستبقى سرّ و سحر الألوان ذا طاقة دريّة كامنة… هي ليليت و عشتار و إيزيس و مريم، و في الجنوب تمامًا ما بين نهديها في كهف نائيّ من جبل شاهق، ولدتني في بلاد البشارة على مقربة من نخل باسق، تحدّني بحر الشام و الروم و فلسطين و سهل الحُولة و وادي التّيم و بلاد البقاع و ما وراء جبل الريحان و نهر الفراديس، و يحدوني الأمل و الحب و السلام.

     لكلّ دين إيمان و قبلة و دعاء، و صدر المرأة ما فتئ يذكّر المرء أنّه خلق ضعيفًا… و في جنوبيّ شرق ما بين نهديها إيمان صوفيّ، و دعاء مباركة تهدي لنعيمهما، و قبلة نهداها كعبتان؛ للشارب و الشارد، و اللاجئ و الضائع، و المستسلم و الجائع، و الصائم و التائب – فأرضهما المخمليتَان مهبط الرسالات و ملتقى الأنبياء و إسراء الرسل و معراج المعجزات.
ثمّة قائمة بأشياء ممتعة و نافعة في آن لم تخصّ أيّ دين إلّاها، القائمة الأسطوريّة التي وقفت وحدها إزاء كل قوائم العالم؛ فهي القائمة الوحيدة التي احتوت على شئ أوحد – نهداها. فما تحت قبتيّ معبدها مَعلَم مقدّس تحجّ إليه أفواج حواسّي من كل فجّ عميق، حيث طقوس تنهيداتها الحارّة و شعائر أنفاس الملاذ تمطران أوصالي بكافّة وسائل الوخز و الإيعاز، فلتعبثي بإيماني و تبعثي بكياني للضياع!
فأمامهما لا تمتلك كل القوائم الأخرى، مجتمعة، إلا الخضوع و الخنوع و لملمة الحاجيّات، و قبالة سواحل نهديها لا يملك أمهر سبّاحي العالم إلا الغرق، فمن الفصاحة بمكان أن تقدّر هشاشة إمكانياتك إزاء مدّ اجتياحهما متعددة الجنسيّات و الاتجاهات، فما سبيل للنجاة و الخلاص إلّا بهما و لا ملجأ إلّا إليهما بإلهامهما الجليّ المبين، فيعتري المرء، و السبّاح على السواء، من جرّاءهما رغبة فولاذية مؤججة بشهوة حسيّة مباغتة.

     للموسيقى نوطات و آلات و درجات و عازفون و عازفات و آوركسترا و قائد و آوبرا… و ما بين نهديها في اتجاه شرقيّة سمفونيّة غربيّة غريبة الأطوار، فممّا بينهما تصدر ألحان الأثداء، و بهما يُرتحل على أشرعة النهود – فنهداها لم تُسقطا موتسارت من الذاكرة العالميّة للأبد فقط، بل و قدّمتا قرابين كل السمفونيّات الخالية أيضًا.

     للزمن بريق لا يُحتمل، و شوق لا يُنتسى، و نسبيّة نظريّة لم تولد بعد… و في شماليّ شرق ما بين نهديها: تخليق و نسبيّة و استنساخ؛ فإبان مسّهما يرتجع المرء عكس اتجاه الزمان كمن يمتطي آلة الزمن. فلتخلعي الآلم و تلقي به بعيدًا خارج كادر الإهتمام الضوئيّ! و لندع الصدريّة البيضاء المقدّسة تحتذي وحدها حذو قانون الجاذبية، و لنكفر، نحن، بنيوتن و بكل قوانين الطبيعة الليلة. 
على نهديك، أنا، كمن جنى الجنتين دان. فحينما تحطّ رحال أصابعَك العملاقة عليهما، بعد عناء هجرة إليهما، تشعر بكهرباء ذي فولتيّة قاسية على القلوب الرحيمة… و لا تدري أين المفرّ؟ فعندئذ يمسسك شوقًا و حنينًا لصدى مكان مكتوم لا تسمع فيه أذناك إلّا دقّات قلبها المنقّبض خلف غياهب ضلوعها المنيرة، و تندهش لِما كلمة الجنّة قريبة الصلة بالجنون؟!
بين نهديها صور مركّبة: صرخات و امتصاص و ضحك هستيريّ… ألعاب و سفن و أنجم… تاريخ و جغرافيا و فلسفة… إيمان و إلحاد و تجريد… فيروز و كهرمان و حلوى… ثغرات و ثورات و عَبرات… قصائد و روايات و عربات… زحام و بحار و عجائب… ماء و ذهب و كانفاس… لون ورديّ و بروز و حامضيّة… صبر و صيدا و نشوة… خرائط و إعصار و هوس… لفائف و أسرار و ما لست أدري!
 

                                               أحمد زيدان

* اللوحة هي "معركة واترلو" كما رسمها الرسام الأيرلنديّ ويليام سادلر (1782 – 1839.)

هذا المنشور نشر في قلة أدب. حفظ الرابط الثابت.

12 Responses to ما بين النهدين

  1. Ahmed كتب:

    حلوة كتير 🙂

    إعجاب

  2. Ahmed كتب:

    شكرًا جزيلًا، منتصر

    إعجاب

  3. well كتب:

    كعبتان الاله انبياء مع تقدري العميق بقوه الكلمات و الاسلوب الرا~ع في الكتابه لكن اسمح لي بان اعترض علي هذا النص هل الي هذا الحد اصبح الحياء شي يضرب به عرض الحائط هل الي هذا الحد نتكلم عن خصوصيات المراءه وكانها شئ جميل نتغزل فيه ارجو مراعاه ما حرم الله وما احل في اعمالنا الفنيه   بسم الله الرحمن الرحيم(وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)  قد اكون شخص غريب قد خدش حياءه بهذه الكلمات ومثلي الكثير وانا فقد اردت ان اقول ليس الفن استباحه لما حرم الله  ان يراه كل انسان وبالتالي لا اعتقد ان اكتب عنه بهذا الوصف…نافقتك ان شكرت وظلمتك ان سكت ولاكني احبك فتكلمت …..وائل عبدالله  http://www.wellandbrothers.deviantart.com

    إعجاب

  4. Ahmed كتب:

    Mr Wael
     
    أحترم رأي سيادتك 100%، و لكن هنا لا حدود على الفن أو الأدب…
     
    تحياتي

    إعجاب

  5. NADIA كتب:

    THIS GUY ZIDANE IS A TWAT !!!!!

    إعجاب

  6. NADIA كتب:

    وقال زيدان TWAT والوحش

    إعجاب

  7. NADIA كتب:

    زيدان يفكر المؤخرة وجهه أبيض وتحب البيض سعادة لعق مواردها ASS وهو براون شمام

    إعجاب

  8. Amira كتب:

    أرنبان أبيضان بأعين عسليّة يرنوان إليك

    إعجاب

  9. Ahmed كتب:

    و ترنو إليهما جزرتي كذلك…

    إعجاب

  10. Amira كتب:

    حُلوة شافية هي صلوات الصّباح والظّهيرة

    إعجاب

  11. Ahmed كتب:

    و حلوتان شافيتان هما صافي و ميرو…

    إعجاب

رُوُح