في حرية التعبير عن الميول الجنسية: هل نحن بحاجة لثورة فكرية شاملة؟

يُمارَس الجنس لأسباب عدّة، لا يمكن حصرها، ولكن الأسباب الأشهر هي الحب، المتعة، الإنجاب، المال، حب العملية الجنسية نفسها، أو أكثر من سبب معًا. إذن، من غير المنطقي، والحالة هذه، أن يتم التمييز بين ممارسي الجنس على أساس “الغرض” من ممارستهم تلك، فنسمع تسميّات مثل جنس “شريف،” وآخر “عفيف،” وآخر “طاهر،” وآخر “بريء،” وآخر “سيء السمعة،” وآخر “دعارة…” إلى آخر هذه المسميّات الهزلية التي تُطلَق على الجنس بغرض التأييد أو الإدانة. إن هذه المسميّات جائرة، ليس فقط كون الرغبة الجنسية، والعملية الجنسية، والنتاج الحاصل منهما هو حرية أصيلة للفرد، ولكن أيضًا لأن تدخّل أيّ فرد، أيّ كان وتحت أيّ مسمّى، في الحياة الخاصة لفرد آخر هو اعتداء صريح على الحقوق الفردية. ويُرجى عدم الخلط هنا، فالتسميّات المختلفة للعملية الجنسية لأيّ غرض تعليمي أو سلوكي أو فلسفي لهو جدير بكل احترام، وهي ليست الحالة بصدد الرصد والتحليل على أيّ حال.

إذن، كلّ فرد عاقل بالغ هو حرّ جنسيًا حرية كاملة سواء في اختيار شريك من عدمه، أو في طريقة أو نوع الممارسة نفسها، أو في غرضها، أو في وضعها، ولا يحقّ لأي فرد آخر أن يحجر “طرقًا معيّنة” أو “أهدافًا معيّنة” للعملية الجنسية، فالطرق كثيرة والأهداف أيضًا. إذن فطريقة الممارسة والغرض من الممارسة هي كلّها حقوق أصيلة لكل فرد عاقل بالغ. يجدر بنا الإشارة هنا إلى أن الجنس ليس فقط مقصورًا على الطريقة البديهية، والتي تطول في شرحها الأديان وتؤيدها العادات والأعراف، وسوف نُطلق عليها للتسهيل “الوظيفة الفسيولوچية” للجنس والتي تترتّب عليها نتائج “مقبولة اجتماعيًا،” ومنها إنجاب الأطفال؛ لأن هنالك طرقًا وعمليات كثيرة أخرى تحمل نفس الاسم – الجنس – ولكن لأغراض مختلفة. ولمّا كان إطلاق الجنس الفسيولوچي بغير تنظيم قد يجلب الهلاك للبشرية كلها، لأننا إذا توقعنا طفل جديد لكل ممارسة جنسية، سوف تفنى الموارد الطبيعية والاصطناعية في الكون لعدم قدرتها على موائمة أعداد البشر الرهيبة المتوقعة من هذه الممارسة “المجنونة.” فقد فكّر الإنسان في طرق لاستمرار القيام بالعملية الجنسية نفسها، دون التقيّد بشروط نتائجها والتي تتمثّل في ذرية جديدة أو طفل جديد. وهذا إثبات سهل لوجود أغراض أخرى للجنس غير الإنجاب، وهو ما جعل الجنس البشري يُقدِم على طرق للقيام بالجنس وفي نفس الوقت درء نتائجه الفسيولوچية – الإنجاب – فيما يُعرف بطرق تحديد النسل أو منع الحمل الاصطناعية، أو حتى الطرق الفسيولوچية مثل التحكّم في نهاية العملية الجنسية.

يصحّ لي تشبيه بدائل العلاقات الجنسية الفسيولوچية ببدائل عمليات أخرى فيزيائية للتقريب. فمثلًا، كيف نمنع فيضان نهر؟ الإجابة سهلة جدًا، وهي بتشييد سدًا لمنع فيضان مياه النهر. إذا اعتبرنا هنا أنّ السدّ سوف يصبح بديلًا اصطناعيًا عن العملية الفيزيائية التي كانت لتؤدي لفيضان النهر لولا عدم وجود السد، يمكننا إذن، في نفس السّياق، توقّع وجود بديل للجنس الفسيولوچي، أو البديهي، بل والاستعاضة عنه بالبدائل الأخرى التي تؤدي لأغراض أخرى من نفس العملية كما ذكرنا. أودّ الإشارة من هذا المثال إلى أن العمليات الطبيعية، أو البديهية، سواء الفسيولوچية أو الفيزيائية ليست حتمية ولا ضرورية، ويوجد بالفِعل بدائل يستخدمها بعض الأفراد للتعبير عن علاقاتهم الجنسية. فالبديهة والطبيعة والفطرة كلها مفاهيم فاقدة للحسّ والإدراك والتحليل، لأن التفكير الإنساني قد يقود لما هو أصلح من البديهة أو الفطرة، حسب الاقتضاء. ولذا لا يمكن “فرض” الطبيعة أو البديهة على كل البشر في كل الثقافات والحضارات باعتبارها “الأصلح” استنادًا لأي نصوص أو خلافه؛ لأن مصلحة كل فرد مختلفة كليًا عن الآخر، والفرضية بأن هناك نتيجة حتمية لعملية “بديهية،” سواء فسيولوچية أو فيزيائية، صالحة لجميع البشر في كل وقت وحين وفي كل مكان، مع عدم افتراض أي بديل ابتكاري أو اصطناعي لها، لهي فرضية ساذجة جدًا، فضلًا عن شموليتها. إن التسليم بالحلول الطبيعية، وعدم طرح أو افتراض، أو التهرّب، أو إنكار، البدائل الأخرى، سواء كانت ابتكارية أو اصطناعية أو أي شيء آخر، لهو كفيل بأن يهدم الحضارة الإنسانية ويأتي بالأرض على بكرة أبيها، وقد شبّهنا مثال فيضان النهر وتشييد السدود فيزيائيًا، بالجنس البديهي ووسائل منع الحمل فسيولوچيًا.

إذا كان لابد ليد الأغلبية أن تمتد لتقرّ بمنع فرد مثلي من حقّه الأصيل في ممارسة الجنس مع من يحب/يستطلف بأي طريقة كانت، وفي أيّ وضع، وتحت أيّ مسمّى أو ظرف، ولأي غرض، خشية “الضلال” أو كون الممارسة المثلية “ممارسة مرضية غير طبيعية وغير مقبولة اجتماعيًا وعُرفيًا ولا تؤدي للإنجاب إلخ…” فمن الأولى أن نمنع كل الطرق الجنسية الأخرى، وليست المثلية فقط، التي لا تؤدي بدورها للإنجاب، ونجنّد الأمن العام لحراسة الفضيلة ومعاقبة مشغّلي المواخير، واعتبار العلاقات الجنسية “غير البديهية” فضائح لابد من البتّ فيها، ونشرها، ومعاقبة “مرتكبيها،” في اختلاط واضح لدى المشرّع بين ما هو حق أصيل للفرد من ناحية وبين ماهية الجريمة النكراء التي يتعدّى فيها فرد على آخر والتي تتطلب الردع والمعاقبة من ناحية أخرى. إن ما يعتقده البعض، ويقوم به آخرون، بأن كشف ممارسة فرد للجنس خارج إطار “العلاقات البديهية الممهورة بإمضاء المشرّع والمختومة بخاتَم الدين والأنبياء ودار الإفتاء” لهو “فضيحة” مدوّية يعدّ اختلاطًا جليًا في المفاهيم؛ لأن مثل هذه الحالات تتطلّب معاقبة “الفاضح” وليس “المفضوح،” على افتراض صحة المسمّيات، لقيام الأول بالتّعدي على حق أصيل من حقوق الثاني بالإعلان عن تفاصيل حياته الخاصة.

أتعجب كثيرًا ممن يسمّون المثلية الجنسية بالمرض، وأدعوهم لتسمية الأشياء بأسمائها. أمّا أكثر ادعائين شائعين لهذا الوسم الغريب هما؛

أولًا، زعم البعض أن الجنس المثليّ لا يقود فسيولوچيًا للإنجاب، إذن فهو “غير طبيعي” بل “ومرضي.”

والادعاء الثاني يأتي ممن يرهبوا المثلية بشكل مرضي (Homophobes)، وزعمهم في ذلك ينصبّ على أن انتشار المثلية، لاحظ مفهومهم عن المثلية الجنسية فهم يعدّوها فكرة” قابلة للانتشار،” ولا يعاملوها على أساس أنها بديل مطروح للجنس يبلغ معه ممارسيه لمتعة قريبة الشبه بالمتعة التي يبلغها الآخرون من جرّاء ممارسات أخرى، لهو “أمر خطير يجب التوقّف عنده. إن المدافعين عن هذا الادّعاء الواهي  يعتقدون أن “انتشار” المثلية الجنسية قد ينتج عنه، وفقًا لهوؤلاء، تناقصًا تدريجيًا لتعداد الجنس البشري، الأمر الذي قد يقود في النهاية لانقراضه نهائيًا!!

أمّا الادّعاء الأول، فقد فنّدناه في فقرة سابقة، وإيجازًا نكرر أن الطرق الطبيعية ليست الوحيدة، بل هناك بدائل مساوية لهذه الطرق في القيمة، ولا يمكن ترجيح بديل على آخر، كونه “بديهيًا.” وإذا كانت المثلية مرضًا لأنها لا تقود تبعيًا للإنجاب، إذن فمن الأولى أن نعدّ الجنس الغيري باستخدام وسائل منع الحمل، أو الجنس الشرجي، أو الجنس الفردي كلها أمراضًا، ونترك الطب للبحث لها عن علاج!

أمّا الادعاء الثاني فهو يعوزه المنطق ويكتنفه الغموض والخوف المرضي. وهي تعدّ فرضية ساذجة يغطّي بها هؤلاء المدّعون، بميكنة دفاعية فرويدية، خوفهم الأصلي من المثليين. إن إمساك المثليين عن الإنجاب لن يؤدي لانقراض الجنس البشري على أيّ حال؛ لأنه طالما هنالك مثليين على قيد الحياة، فهنالك بالتأكيد “غيريين” أنجبوا هؤلاء المثليين، وهكذا! فضلًا عن المثليين الذين ينجبوا بالفِعل ذريات جديدة في علاقات غيرية، إراضاءً للتقاليد وهروبًا من الضغط الاجتماعي، بينما يستمرون في علاقاتهم الجنسية المثلية. فناء الجنس البشري غير مرتبِط بالمثليين أو طريقة الممارسة الجنسبة في العموم بقدر ارتباطه بمدى قدرة الإنسان على التكيّف على الظروف البيئية المحيطة. فطالما هناك إنسان، سوف يظلّ هناك جنسًا، وسوف تكون هناك ذرية جديدة بالتبعيّة، وسوف تُبتكر آلاف الطرق والأوضاع والأغراض لممارسة الجنس. وإذا كان هذا، عزيزي الهوموفوب، هو مثار قلقك الحقيقي، فأنا أقدّر مدى شغفك بالجنس البشريّ، وأطمئنك بأن وجود المثليين لن يُفضي لفناء الجنس البشري، فلا تقلق عزيزي! وإذا كان هذا الادعاء “الساذج” سوف يؤول برجل بيروقراطي متدين صاحب قرار، أن يمنع، على سبيل المثال، زواج المثليين، فمن الأولى به، في خضمّ هذا القانون الغريب، أن يجعل الزواج الغيري والإنجاب إجراءات إجبارية على الجميع، ويقوم بمعاقبة العزباء والمرضى الذين يعانوا العُقم، وأن يمنع كذلك كل وسائل منع الحمل، بما فيها الواقي الذكري، بل ومراقبة جميع المتزوجين خشية سلوكهم لأوضاع جنسية قد لا تؤدي للإنجاب. إن هذه الادعاءات والإجراءات من شأنها أن تحوّل العالم لجستاپو الجنس!

الخوف من الأغراب، أو المختلفين، أو حتى العنصرية تجاههم هي بديهية طفولية، يتخلّص منها الفرد عند بلوغه بمساعدة الرصد والتفكير والتحليل والقراءة، ومن ثمّ التعرّض لهؤلاء الأغراب، والاختلاط بهم، وبأفكارهم، وتكوين صداقات معهم، حتى يبلغ الفرد مفهوم الفردانية، أي أننا جميعًا أفراد والاختلافات بيننا واردة بل وضرورية، ليصبح تقبّل الآخر وتقبّل اختلافه، بل والتفكير بشأن التحوّل للانتماء لعاداته، سمة مميزة للأفراد المتعلّمة والمتطورة عقليًا عن الأفراد الآخرين الذين لم يختلف نمو عقلهم كثيرًا عن طفولتهم.

إذن، هنالك بدائل مساوية تمامًا للجنس الفسيولوچي الذي يؤدي للإنجاب، وهذه البدائل متنوّعة الأغراض والطرق، مثل غرض المتعة على سبيل المثال. لا يمكن وسم بدائل الجنس الفسيولوچي بأي أوسام أخرى إضافية، لأنها لا تعدّ إلا بدائل تؤدي لأغراض مختلفة لنفس العملية، وهي بدائل مطروحة يوميًا. وقد ذكرنا بالفعل بديل واحد في الفقرة السابقة، وهي العلاقات الغيرية (Heterosexual) باستخدام وسائل منع الحمل (Contraception)، ولكن هناك بدائل أخرى كثيرة للجنس بدون إنجاب قد يمارسها أفراد آخرين حسب الاحتياج، مثل الجنس الشرجي (Anal Intercourse)، أو المثلية الجنسية  (Homosexuality)، أو ازدواجية الميول الجنسية (Bisexuality)، أو الجنس الجماعي (Orgy)، أو حتى الجنس الفردي (Masturbation)، وغيرها الكثير. إذن، لكلّ فرد طريقته الخاصة في التعبير عن ميوله الجنسية لبلوغ نفس درجة النشوة التي تبلغها أنت. فمثلما لا يحجر أحد، من أصحاب الميول الجنسية المختلفة، عليك ميولك الخاصة، لا يمكن أن تحجر أنت ميولك على الآخرين؛ لأن لكلّ منّا طريقته الخاصة، ليس فقط كذلك، بل أوضاع جنسية خاصة، وأغراض خاصة، ذكرناها في بداية هذه الأطروحة، إلى ما لا نهاية. وهذه بالتأكيد حرية فردية لا دخل لأحد بها إطلاقًا.

الميول الجنسية مختلفة ومتباينة ومُشتركة وكثيرة

لا يمكن التمييز بين الأفراد على أساس الميول الجنسية، التي هي سرية وخاصة بالأساس، إن لم يختر الفرد عكس ذلك. ولا يمكن مقارنة التمييز بين الأفراد على أساس الميول الجنسية سوى بالتمييز بين الأفراد على أساس “لون السروال الداخلي.” فيعدّ أمرًا غير منطقيًا وغير مقبولًا، بل ومضحكًا في أحيان أخرى. إن الخوف المرضي من فرد آخر، أيّ كان، فقط لمجرد أن ميوله الجنسية مختلفة عنك شخصيًا يبدو، في نفس السياق، مخجلًا لدرجة كبيرة. لأنك إذا كنت ترهب المثليين كون ميولهم الجنسية مختلفة عنك، فمن الأولى أيضًا أن ترهب الذين يمارسون علاقات شرجية باستمرار، أو مستخدمي وسائل منع الحمل، إذا كنت لا تستخدمها أنت، أو ترهب من يمارسوا الجنس جماعيًا. إذن، فلترهب كل المختلفين عنك، مهما كان عددهم، ولتقضِ ما تبقّى من حياتك في حلقة مُفرغة من الخوف المرضي الذي لن يعود عليك سوى بتقليص أقطار دوائرك الاجتماعية، نظرًا لمشاركتك صداقات من يماثلونك تمامًا فقط، إن وجدت! وسوف يتطلب هذا أن تسأل كل شخص قبل طلب صداقته/ها عن ميوله الجنسية، وعن الطريقة والوضع الأمثل الذي يمارس، أو تمارس، بها الجنس لتقرير استمرار علاقة الصداقة بينكما من عدمها. إن الخوف المرضي من فردٍ آخر بسبب ميوله الجنسية لهو درب من دروب الوهم في القرن الحادي والعشرين، وهو لا يختلف كثيرًا عن الخوف من الأجانب، أو أصحاب البشرة المختلفة، أو العِرق المختلف، أو الدين المختلف، أو المذهب المختلف.

لابد أن تسأل نفسك سؤالًا هامًا؟ هل اخترت ميولك الجنسية وفق اختيار حر؟ على الأغلب، خاصةً في منطقتنا هذه نظرًا لما نحظى به من عادات وتقاليد، لا! الاختيار الحر الواعي يتطلّب الدراية بكل البدائل المناسبة والمتوافرة، بل والتعرّض لها مرة واحدة على الأقل لاختبارها، ومن ثمّ اختيار الطريقة الأمثل للتعبير عن نفسك، سواء في الجنس، أو الأكل، أو المُعتقد الديني، أو الاتجاه السياسي، أو أيّ وسم آخر. أنت على الأغلب نتاج من سبقوك، واختيارك لم يكن حرًا حرية كاملة في كل هذا، فما بالك في اختيار ميولك الجنسية؟ هذا لأن النشأة في هذه المجتمعات الشرقية تتم على الصواب مطلقًا لا يحتمل الخطأ، والخطأ مُحرّم دينيًا وأخلاقيًا وقضائيًا، بدايةً من الدين، وليس نهايةً باختيار الكلية والعمل، مرورًا طبعًا بالجنس، وكل ما عدا الممارسة القطيعية هو خطأ وحرام و”عيب.” سوف نفترض هنا أن الجنس الغيري هو الممارسة “المعتادة والمقبولة” مجتمعيًا، أو السائدة، أو البديهية، ولكن هذا ليس كل شيء! فالجنس الغيري في إطار الزواج هو الممارسة الوحيدة المقبولة مجتمعيًا. هذه الشروط المُجحفة لأي إنسان عاقل بالغ، والتي قلّما تتحقق، تنفي معها “الاعتراف” بما عداها من ممارسات، سواء علاقات غيرية خارج إطار الزواج، أو علاقات مثلية أو غيرها، وقد أوجزنا الإشارة لبعضها في فقرة سابقة. إن الممارسة “البديهية” للجنس ليست هي الممارسة الوحيدة، ولا يمكن نفي وعزل باقي الممارسات لمجرد أنها “غير مقبولة اجتماعيًا،” ولا يمكن أيضًا التقليل من بقيّة البدائل، ولا الهروب من رصدها بغية عدم التعرّض للنقد. “الممارسة البديهية” للجنس ليست الوحيدة، وليست الأنسب للجميع، ولكنها فقط ممارسة الأغلبية التي تريد أن تفرضها قهرًا على الأقلية باسم حكم الأغلبية – والتي تُشبه كثيرًا الديقمراطية سياسيًا. أضف إلى ذلك أن وسم “الممارسة البديهية” للجنس بأنها ممارسة الأغلبية هو وسم غير دقيق، لافتقادنا إحصاء نزيه للنِسب المختلفة للميول الجنسية في الشرق الأوسط بل في العالم أجمع. ولا حاجة للقول بأن نِسب المتزوجين عالميًا ليست كفيلة بترجيح كفّة “الممارسات الغيرية أو البديهية” لأن هناك نسب غير منظورة من المتزوجين قد أُجبروا على الزواج إذعانًا للتقاليد والأعراف، وهم في الأصل مثليون أو مزدوجو الجنس أو حتى لا-جنسيون (Asexual).

إن المثلية ليست مرضًا، كما أنّ أيّ ميول أو رغبات جنسية “مغايرة” ليست أمراضًا، ولكن التدخّل في حياة الأفراد الخاصة هي المرض الذي يجب أن يُستأصل بقوة القانون. إن المثلية ليست مرضًا، بل التهرّب من الاعتراف بالرغبات الجنسية، وحجر الميول الجنسية على الآخر هي أُسّ الداء. إن المثلية ليست مرضًا، بل ترك كل شيء على أحواله السيئة والفاترة خشية مواجهة المجتمع والناس هو المرض في حدّ ذاته؛ لأن استمرار الشكوى هو المرض، وليس انعدامها. فلنعطِ الأشياء مسمّياتها أو لنصمُت!

وعلى سبيل المثال، فإن استمرار شكوى امرأة من زوجها جنسيًا هو مشكلة يجب التوقّف عندها، ورصد أسبابها، وتحليل دوافعها، وتبدر معها استشارة الأخصائي أو التشاور المستمر بين الشريكين هي الحلول المناسبة في ظل تفاقم هذه المشكلة بالسكوت والهروب. وإذا استمرت الشكوى، فالانفصال هو الحلّ الأمثل لهذه المشكلة، بلا خضوع، ولا استسلام، ولا خوف سواء من المجتمع أو العادات أو الدين. أمّا استمرار الزواج كونه من “العار الاجتماعي” أن تتمّ حالات الطلاق في “العائلات الكبيرة” وما إلى آخره من هذه الخرافات الكبيرة هي المرض في حدّ ذاتها. وعلى سياق متّصل، فإن ممارسة الفرد لميول جنسية غير راضٍ عنها، خوفًا من عواقب ممارسته لميول أخرى، هو المرض، وليس التعبير عن ميوله بحرية.

استكمالًا لتعريفنا الذي يقضي بأن المرض هو استمرار للشكوى دون علاج أو وقفة حاسمة، فإن ممارسة الفرد للجنس مع الجنس الآخر بدون ارتياح، بل وبتقزز مستمر مع أفراد مختلفين من الجنس الآخر، لهو استمرار لشكوى معيّنة، يجدر معها تجربة التحوّل لممارسة ميول مختلفة، إذا استلطف هذا الفرد طرفًا من نفس جنسه، أو من أي جنسٍ كان، هو الحل المناسب. فبلوغ المتعة هو الغرض، إذا انتفت جميع الأغراض الأخرى، والفرد قد يبذل في سبيل ذلك أيّ شيء، ولا يجدر به أن يُنحّي أيّ حلّ لمشكلته كونه “غير مُحبب اجتماعيًا.” وإذا كانت ممارسة الجنس المثلي هو الحل لهذه المشكلة، فتصبح المثلية في أحيانٍ هي العلاج لمرضٍ قائم، وليست مرضًا في حد ذاتها. هذا مع اعتراضي التام على لفطة “مرض” من الأساس، ولكن كتابة أطروحة كاملة يستدعي إثبات لوجهة نظر، وتفنيد وجهة النظر المضادة، ولتفنيد وجهة نظر مضادة، يجب مخاطبتها بألفاظها التي لا نألفها عادةً.

إن الاعتراف برغبات أجسادنا بصراحة ووضوح لشريكنا، أو حتى للعالم كله، ليس مخجلًا على الإطلاق، بل يعدّ إجراءً ضروريًا لحياة نفسانية وجنسانية صحية خالية من أمراض الكبت، الأمراض التي ترسّبها عادةً المشاكل والمعيقات النفسية. بل إن هذا الاعتراف والتقبّل والمواجهة المباشرة هو الضمان الوحيد لحياة سعيدة. السعادة التي تعدّ المبتغى الأول والأخير من هذه الحياة التي نعيشها، وإن لم نبحث جاهدين، بل نطارد، هذه السعادة بالنهل من ينابيع الجنسانية الغامرة، لفقدنا شقًا رئيسيًا ومبهجًا من هذه الحياة، والتي لن تعوّضها أيّ بهجة أخرى على الإطلاق.

أودّ أن ألخّص أطروحتى في أننا نعيش في مجتمعات تمارس الوصاية الجنسية، كما الوصاية الدينية، على أفراد العشيرة والقبيلة والقطيع. والتخلّص من ثقافة القطيع يتوجب معه التخلّص من كل وصاياها وعاداتها وتقاليدها بلا رجعة. من حقّ أي فرد عاقل بالغ ممارسة الجنس كيفما يشاء، أو تشاء، وكيفما يحلو له، وبأي غرض، وفي أي وضع، وفي أي وقت بلا وصاية من أيّ فرد آخر مهما كان. وكاتب هذه الأطروحة يرفض رفضًا تامًا التهرّب من الحقائق بهذا الشكل المخزي الذي نعانيه في مجتمعاتنا الشرقية خاصةً فيما يتعلّق بالجنس؛ لأن حلّ المشكلات أو إيجاد علاج للأمراض النفسانية يقتضي أولًا الاعتراف بوجودها ومجابهتهت. وهذه هي السّياسة ما نحاول أن نتبعها على شباب الشرق الأوسط عبر رصد وتحليل ومعالجة “التابوهات” الاجتماعية. إذا كنت تقرأ هذه الأطروحة الآن، تصاَلح مع نفسك وهويتك، وعبّر عن جنسك وميولك الجنسية بأريحية، لأن تقبّلك لنفسك واعترافك بميولك الجنسية، أو أيّ ميول أخرى، هو الأهم في هذه العملية برمّتها، وليس الأهم هو اعتراف العالم بك! لا تهتم بشأن الأغلبية كونها تسير في اتجاه مرسوم بعناية “اجتماعية!” فالسّير مع القطيع غالبًا يعدّ مضيعةً للوقت والجهد، وهو ليس الطريق المُثلى على أيّ حال، فضلًا عن ازدحامه ورائحته الكريهة.

إن مفاهيم اجتماعية سائدة كالزواج والعفّة والطهارة وحتى “الشذوذ” عن القيم والممارسات البديهية، تبدر لي شخصيًا محض أوهام لابد لمجتمعاتنا أن تتبرأ منها، ولكن هذا يتطلّب عقود طويلة حتى تتخلّص المجتمعات الشرقية من الإرث الثقيل من الهوس الجنسي المرضي الذي يستدعي التحريم والتجريم “والتجريس.” وإذا تخلّصت منها النخبة، فهو الطريق التمهيدية للتخلّص منها تمامًا، لأن النخبة هي النبراس والحافز في أيّ حضارة. ولذا إن كنت أتوجه برسالتي هذه، فأنا أتوجه بها، مثل كل مقالاتي وأطروحاتي، للنخبة؛ لأن التوجه برسالة كهذه للعوام وأنصاف المتعلّمين يصبح دربًا من دروب الجنون.

إن نقطة الارتقاء التي سوف نبلغها عندما نعترف بالجنس كحاجة إنسانية أساسية كالطعام والشراب يتم سدّ نهمها والتعامل معها فرديًا، وليس مجتمعيًا، هي النقطة التي سنعترف عندها، بصراحة، بآفات الماضي وآثامنا الفكرية والتشريعية، وجلدِنا لذواتنا، وجلدِنا للمتحررين، عند هذه النقطة سوف يتساوى جميع الأفراد بغض النظر عن ميولهم الجنسية، أو اتجاهاتهم السياسية، أو عقائدهم، أو جنسهم، أو عِرقهم. إن نقطة الرقيّ والوعي هذه لا تتطلّب ثورة سياسية، بل ثورة فكرية شاملة.

إن الميول الجنسية تعدّ ملفًا مغلقًا أوشك أن يأكله الصدأ على أرفف التجاهل والنسيان، ولذا نحاول جاهدين على شبكة شباب الشرق الأوسط لدعم المساواة بين الأفراد، بغضّ النظر عن المعتقد، أو الجنسيّة، أو الجنس، أو الميول الجنسية، وهذه هي نفس أهداف مشاريعنا المختلفة، فنحن نكتب ونسجّل وندوّن ونوثّق ونُبدع من أجل مستقبل أفضل في المنطقة، ومن أجل الاشتراك في رسم معالم هذه الثورة الفكرية. أمّا بخصوص الميول الجنسية تحديدًا، فقد سجّلنا وأذعنا من قبل حلقة آرابيكاست وپودكاست مع مدوّن سوداني يعيش في إحدى دول الخليج، يعبّر فيها عن ميوله المثلية، استمع إلي الحلقتين هنا وهنا. وقد طرقنا الملف أيضًا بتقرير طويل حظي بآلاف القراءات حول الزواج والعلاقات الجنسية من وجهة نظر الشباب، ونُشر منذ عام بمجلة الحسناء اللبنانية، ونطرق الآن القضية مرة أخرى بهذه الأطروحة. ولكن مازال لدينا الكثير لإنجازه وطرحه ومناقشته بصدد هذا الملف غير المطروق إعلاميًا بالمرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهذه مجرّد البداية.

إن هذه الأطروحة ليست دفاعًا عن المثلية الجنسية، إنما دفاعًا عن الحرية الفردية للعقلاء البالغين!

هذا المنشور نشر في ملحوظات. حفظ الرابط الثابت.

رُوُح